في زوايا التاريخ، وعلى صفحات الطب القديم، تتلألأ كلمة "الحجامة" كأثرٍ من حكمة الأوائل، ونداءٍ صامت من الجسد إلى التوازن. ليست مجرد فعل علاجي يُجرى على الجلد، بل طقسٌ له رمزية عميقة، يربط بين الروح والجسد، بين ما يثقل الداخل وما يُخرج منه.
حين نتمعن في ثقافات الشعوب القديمة، نجد آثار الحجامة منقوشة على جدران المعابد المصرية، ونقرأ عنها في المخطوطات الصينية، ونلمح إشاراتها في الطب الإغريقي القديم. وكأن الألم، منذ أن عرف الإنسان الوجع، كان يبحث عن خلاصه في هذا الفن البسيط، الذي يعيد ترتيب الدم، ويوقظ ما خَفَتَ من الحيوية.
في عالم اليوم، حيث الأجهزة تهمس للدماغ بما يختلجه من خلل، والحبوب تخبر الجسد أنها تملك مفاتيح الراحة، تأتي الحجامة كصوتٍ هادئ يذكّر بأن في الجسد نفسه قدرة على الشفاء، إذا ما أُتيح له أن يفرغ ما تراكم فيه من ركود. فلا غرابة أن يعود الناس إليها، لا هربًا من الحداثة، بل توقًا إلى ما هو أصدق.
وللحجامة توقيت، وكأن الزمن جزء من العلاج. أيامٌ مخصوصة، وساعات محببة، يوصي بها من نقل إلينا أن "خيرَ ما تداويتم به الحجامة". لم يكن النبي ﷺ يُعطي نصيحة طبية مجرّدة، بل كان يشير إلى ما ينسجم مع نظام الجسد والكون. كان يعلّمنا أن العلاج ليس في الأداة فقط، بل في إدراك اللحظة المناسبة، في الإصغاء لما يطلبه الجسد لا لما نفرضه عليه.
أما في تفاصيلها، فالحجامة نوعان؛ أحدهما يكتفي بشفط الجلد وتحريك الدورة الدموية، والآخر يسحب دمًا يُظن أنه حمل ما تراكم من شوائب التعب. كلاهما يعتمد على مبدأ بسيط: التحفيز الذكي لقدرة الجسد على التجدُّد.
قد يسأل سائل: هل هذا علم أم تقليد؟ فيجيب الواقع: بل هو الاثنين معًا. ففي مختبرات اليوم، تتعالى الأصوات المؤيدة لتأثير الحجامة على تحسين المناعة، وتخفيف آلام العضلات، وحتى تحسين المزاج. ولعل الرياضيين العالميين الذين تظهر آثار الكؤوس على ظهورهم، لم يذهبوا إليها من باب التراث، بل من باب الفعالية.
لكن ليست كل الأجساد سواء، ولا كل الأوقات مناسبة. فالحجامة تحتاج فهماً قبل أن تُمارس، ويدًا خبيرة لا تُجرب بل تعالج، ونَفَسًا مسؤولاً يدرك أن الجسد أمانة.
هي ليست سحرًا، وليست بديلاً لكل دواء، لكنها تذكيرٌ أن في البساطة شفاء، وأن في العودة إلى الجذور شجاعة لا رجوع فيها.
- سجل الدخول ليمكنك التعليق